كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وصل منه:
وإذا عرفت هذا، فنقول: إنّ أسدّ صراط خصوصي في مطلق الصراطات المشروعة ما كان عليه نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله، قولا وفعلا وحالا على نحو ما نقل من سيرته. والفائز بها الكامل في الاتّباع تقليدا، أو عن معرفة وشهود وهي الحالة الوسطى الاعتداليّة، والناس فيها على مراتب لكلّ ذي مرتبة منها آية، أو آيات تدلّ على صحّة تبعيّته ونسبته منه صلّى اللّه عليه وآله، بموجب القرابة الدينيّة الشرعيّة، أو القرابة الروحانيّة من حيث ورثه في الحال أو في العلم- ذوقا ومأخذا- أو في المرتبة الكماليّة التي تقتضي الجمع والاستيعاب.
وهذه الآيات تكون في حقّ المحجوبين وفي حقّ أهل الاطّلاع.
فآيتها في الإلهيّات بالنسبة إلى من هو دون الكمّل والأفراد شهود الحقّ الأحد في عين الكثرة مع انتفاء الكثرة الوجوديّة وبقاء أحكامها المختلفة. هذا، مع المعرفة اللازمة لهذا الشهود وهي معرفة سبب تفرّع النسب والإضافات ورجوعها حكما إلى الوجود الواحد الحقّ، الذي لا كثرة فيه أصلا.
وأهل هذا الحال فيه على درجات في الشهود والمعرفة والولاية، وفي معرفة سرّ الاتّباع وحكمه موافقة واقتداء، وفي نتائج الأعمال الموقّتة وغير الموقّتة، الصادرة بالنسبة إلى التابع، وبالنسبة إلى الموافق.
والاستقامة الوسطيّة بالنسبة إلى غير أهل الكشف والمعرفة من المؤمنين والمسلمين أيضا على مراتب ودرجات، فأتمّهم إيمانا بهذا الذوق المذكور، وأشدّهم تحرّيا للمتابعة، وأصحّهم تصوّرا لما يذكر من هذه الشأن أتمّهم قربا من الطبقة الأولى، ولهم الجمع بين التنزيه المنبّه عليه في سورة الإخلاص، وفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} وبين تشبيه: «ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة» و«يسكن جنّة عدن في دار له فيها» ويتحوّل في الصور يوم القيامة، وينزل مع ملائكة السماء السابعة فيستوي على عرش الفصل والقضاء، ويراه السعداء، ويسمعون كلامه كفاحا، ليس بينه وبينهم ترجمان فيثبت كلّ ذلك للحقّ كما أخبر به عن نفسه، وبحسب ما ينبغي لجلاله، في مرتبة ظاهريّته، لأنّ كلّ هذا من شؤون الاسم الظاهر كما أنّ التنزيه متعلّقه الاسم الباطن.
ولحقيقة سبحانه المسمّاة بالهويّة الجمع بين الظاهر والباطن كما نبّه على ذلك بقوله:
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، فعيّن مقام الهويّة في الوسط بين الأوّليّة والآخريّة، والظاهريّة والباطنيّة، وكذلك نبّهنا سبحانه فيما شرع لنا من التوجّه إلى الكعبة بعد التوجّه إلى بيت المقدس على سرّ ما أشرنا إليه بقوله: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي بين المشرق والمغرب لأنّه أردف ذلك بقوله:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب.
ولمّا كان المشرق للظهور والمغرب للبطون والوسط للهو كما بيّنّا، كان صاحب الوسط له العدل والاستقامة المحقّقة، وأمّا قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فهو تنبيه منه سبحانه على سرّ الحيطة والمعيّة الذاتيّة والإطلاق، ويظهر حكم ذلك في الحائر الذي لم يتحقّق جهة القبلة، وفيمن يتوجّه إلى القبلة من جهة المغرب أو المشرق كأنّ أحدهما متوجّه إلى المغرب- وإن كان قصده استقبال القبلة من جهة المغرب- والآخر بالعكس كأنّه متوجّه إلى المشرق، وفيمن ينتقل على راحلته فإنّه يصلّي حيث توجّهت به راحلته كما ثبت ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وفي المصلّي في نفس الكعبة لا يتعيّن بجهة معيّنة هكذا حال من عاين محتد الجهات وارتقى عنها إلى حيث لا أين ولا حيث ولا إلى لأنّه حصل في العين وتحرّر من رقّ كلّ جهة وكون ومقام وحال وأين، فصار قبلة كلّ قبلة، وجهة أهل كلّ نحلة وملّة، لا يسلك ولا يسير، بل منه أبرز ما أبرز، وإليه يسلك به، وإليه المصير.
ثم نرجع ونقول: ودون هذه الطائفة المذكورة من قبل التامّين في التبعيّة والإيمان الطائفة المنزّهة التي لا تعطّل ولا تجزم بما تتأوّل، ودون أولئك الظاهرية التي لا تشبّه ولا تتحكّم، وكلّ طائفة من هؤلاء ينقسم إلى أقسام وبين كلّ طائفتين منهم درجات في الاعتقادات، لكلّ منها أهل، فمن عرف ما ذكرنا، ثم استقرأ حال الفرق الإسلاميّة، عرّف حالهم وعرف أبعدهم نسبة من أقربهم، المنبّه على حاله وعرف ما بين الطرفين ونسبة قربهم وبعدهم من الطبقة العليا، ولو لا التطويل، لذكرتهم على سبيل الحصر، وعيّنت طرقهم وسيرهم ولكنّ الغرض الاختصار والإيجاز، وفيما ذكرنا غنية للألبّاء، واللّه المرشد.
وصل:
في مراتب السير والسلوك:
اعلم، أنّ السير الذاتي الأصلي بالنسبة إلى الحقائق الكونيّة والأسماء الإلهيّة والأرواح العليّة والأجرام الفلكيّة والاستحالات الطبيعيّة والأحوال التكوينيّة وجميع التطوّرات الوجوديّة كلّها دورى فسير الأسماء بظهور آثارها وأحكامها في القوابل. وسير الحقائق بتنوّعات ظهوراتها في المظاهر المتنوّعة، وسير الأرواح بلفتتيها استمدادا من الحقّ بلفتة وإمدادا بلفتة أخرى، وبالمواظبة على ما يخصها من العبادة الذاتية مع دوام التعظيم والشوق، وسير الطبيعة بإكساب كلّ ما يظهر عنها صفة، صفة الجملة وحكمه، فافهم.
والسير الخصوصي من الوسط وإليه خطان، والخطّ المستقيم أقصر الخطوط، فهو أقربها فأقرب الطرق إلى الحقّ- المعرّف في الشريعة، الذي قرنت السعادة بالتوجّه إليه- هو الصراط المستقيم الذي نبّهت عليه، وقد ذكرت لك صورة العدل والاعتدال في المراتب الكلّيّة والأحوال والأخلاق العليّة السنيّة، ونبّهتك على أحكامها وآثارها ونتائجها الموقّتة وغير الموقّتة والظاهرة منها والباطنة، وأوضحت لك مراتب الهداية وأهلها العالين والمتوسّطين والنازلين، وحال الناس في الاستقامة أيضا من حيث الفعل والقول والقلب.
وأنا الآن أجمع لك ذلك جمعا موجزا من أوّل مرتبة الرشاد الذي هو الإسلام، ثم الإيمان، ثم التوبة التي هي أوّل مقامات السالكين، وهكذا إلى آخر مقام، لينتظم الأمر وترتبط السلسلة المتعيّنة بين بداية الأمور وغايتها وأوائلها وأواخرها، ثم أنبّهك على سرّ النبوّة الآتية بصورة الهدايات، والدالّة على غايات الكمالات، وأطلعك على سرّ الاستقامة والاعوجاج والمبادئ والغايات وما يختصّ بجميع ذلك- إن شاء اللّه تعالى- فأقول:
أوّل مرتبة الرشاد في الصراط الخصوصي المشروع الإسلام وله التنبيه الإجمالي على حكم التوحيد الكلّي المرتبي والانقياد للّه الموجد، الذي لا يجهل أحد الاستناد إليه ولا الانقياد له، وله فروع من الأحكام والأحوال، وتلبّس الإنسان بتلك الأحوال وانقياده لتلك الأحكام هو سيره في مراتب الإسلام ودرجاته، حتى ينفذ منه إلى دائرة الإيمان، وهكذا حاله في دائرة الإيمان بالأحكام والأحوال المختصّة به، حتى ينتهي إلى حال الطائفة التي ذكرناها آنفا وقلنا: إنّها تلي طائفة العرفان والكشف والشهود.
ومبدأ الشروع في درجات الكمال الإيماني من مقام التوبة، فالصراط المستقيم العدل الوسط في التوبة عبارة عن التلبّس بالحالة الخالصة من الشوائب المنافية للصدق، والجزم عند قصد الإنابة بحيث تكون التوبة طاهرة من كلّ ما يشينها مقبولة ثابتة الحكم، ثم التصديق الخاصّ بأنّ اللّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ويعلم ما يفعل عباده.
وفي قوله سبحانه في هذه الآية: وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، تنبيه على هذا الإيمان المشار إليه فإنّ الإيمان- كما علمت- التصديق، فمن صدّق اللّه في إخباره أنّه يعلم ما يفعلون، لم يقدم متجاسرا على ما يكره لأنّه من الضعف بمثابة أنّه لو نهاه مخلوق مثله- ممّن له عليه تسلّط- عن أمر مّا، وعرف أنّه كاره لذلك الأمر، ثم تأتّى له فعل ذلك الأمر مع وفور الرغبة ووجدان الاستطاعة لكنّه بمرأى من ذلك المتسلّط الناهي ومسمع، فإنّه لا يقدم على ارتكاب ذلك الفعل أبدا وإن توفّرت رغبته إلى أقصى الغاية، بل مجرّد الحياء من معاينته له مع تقدير الأمن من غائلته يصدّه عن ذلك، فكيف به إذا لم يتحقّق الأمن، فهذا النحو من الإيمان ليس هو نفس الإيمان باللّه وكتبه ورسله على سبيل الإجمال، بل هذا إيمان خاصّ.
ومن أكبر فوائد إخبار الحقّ ورسله والكمّل من خاصّته عن أحكام القدر تنبيه النفوس والهمم وتشويقها للتحلّي بعلم القدر أو التحقّق بالإيمان به بعد الإيمان بما ذكرنا، كقوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} وكقوله عليه السّلام: «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللّه وأجملوا في الطلب».
وكقوله: «لا يستكمل إيمان عبد مسلم حتى يكون فيما في يد اللّه أوثق منه ممّا في أيدي الناس»، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضا: «حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» و«حتى يخاف اللّه في مزاحه وجدّه» ونحو هذا في هذا المعنى وغيره ممّا يطول ذكره ويجرّب العبد بميزانه عليه السّلام وميزان ربّه إيمانه، فيعلم ما حصّل وما بقي عليه ولم يحصّله.
ثم الصراط المستقيم العدل الوسط بعد التحقّق بالتوبة المقبولة المنبّه على حكمها هو الثبات على العمل الصالح بصفة الإخلاص الذي هو شأن أهل الإنابة، ثم الترقّي بالعمل الصالح في الدرجات العلى كما قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يعني الأرواح الطاهرة وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فلا يزال الإنسان- مع إيمانه وتوبته وملازمته الأعمال الصالحة- يتحرّى الأسدّ فالأسدّ، والأولى فالأولى من كلام وعمل، فيتّقي ويرتقي من حقّ الإيمان إلى حقيقته، كما نبّه الرسول صلّى اللّه عليه وآله على ذلك الحارثة.
وقد سأله: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقّا فقال: «إنّ لكلّ حقّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فتساوى عندي ذهبها وحجرها ونحو ذلك، ثم قال: وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزا وكأنّ أهل الجنّة في الجنّة ينعّمون وأهل النار في النار يعذّبون، فقال عليه السّلام: «عرفت فالزم». فهذا آخر درجات الإيمان، وأوّل درجات الإحسان.
ثم إنّ العبد يرقى ويزداد من النوافل بعد إحكام الفرائض وإتقانها وجمع الهمّ على اللّه وإحضار قلبه فيما يرتكبه للّه، مع مشاهدة التقصير بالنسبة إلى ما يجب وينبغي، ثم الإكثار من النوافل ما كان أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، لكونه كان أحبّ إلى اللّه، فيدأب عليه ويلازمه لحبّ اللّه فيه ورسوله، ولأنّه أشدّ جلاء للقلب الذي عليه مدار كلّ ما ذكرنا. ومنتهى جميع ذلك ما أخبر الحقّ به على لسان رسوله بقوله: «ولا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» الحديث. وهذا مقام الولاية، وبعده خصوصيات الولاية التي لا نهاية لها إذ لا نهاية للأكمليّة، بل بين مرتبة «كنت سمعه وبصره».
ومرتبة الكمال المختصّ بصاحب أحديّة الجمع- المذكور غير مرّة والمنبّه عليه أيضا منذ قريب- مراتب، فما ظنّك بدرجات الأكمليّة التي هي وراء الكمال، فمن جملة ما بين مرتبة «كنت سمعه وبصره» وبين مرتبة الكمال. مرتبة النبوّة، ثم مرتبة الرسالة، ثم مرتبة الخلافة المقيّدة بالنسبة إلى أمّة خاصّة، ثم الرسالة العامّة، ثم الخلافة العامّة، ثم الكمال في الجمع، ثم الكمال المتضمّن للاستخلاف والتوكيل الأتمّ من الخليفة الكامل لربّه سبحانه في كلّ ما كان الحقّ سبحانه قد استخلفه فيه، مع زيادة ما يختصّ بذات العبد وأحواله فكلّ نبيّ وليّ ولا ينعكس، وكلّ رسول نبي ولا ينعكس، وكلّ من قرن برسالته السيف فخليفة، وليس كلّ من يرسل هذا شأنه، وكلّ من عمّت رسالته، عمّت خلافته إذا منحها بعد الرسالة، وكلّ من تحقّق بالكمال، علا على جميع المقامات والأحوال والسلام وما بعد استخلاف الحقّ والاستهلاك فيه عينا والبقاء حكما مع الجمع بين صفتي التمحّض والتشكيك مرمى لرام.
ومن أراد أن يتفهّم شيئا من أحوال الكامل وسيرته وعلاماته، فليطالع كتاب مفاتح غيب الجمع وتفصيله الذي ضمّنته التنبيه على هذا وغيره، وقد فرّقت في هذا الكتاب جملا من هذه الأسرار، فإن أردت الاطّلاع على مثل هذه الجواهر، فأمعن التأمّل في هذا الكتاب، وألحق آخر الكلام بأوّله، واجمع النكت المبثوثة فيه وما قصد تفريقه من غامضات الأسرار، تر العجب العجاب. وما يتوهّمه المتأمّل تكرارا فليس كذلك، وإنّما كلّ ما لا يمكنني التصريح به دفعة واحدة قد أعيد ذكره بتعريف آخر ولقب غير اللقب الأوّل لأكشف بذلك قناعا من حجبه غير ما كشف من قبل، اقتداء بربّي وسنن الكمّل من قبلي، فاجمع وتذكّر واقنع واستبصر، والله الهادي والمبصّر.